صناعة الجهل
عمّار الحيدري – النهار
اللبنانيون الجدد
يقول المؤرخ في جامعة ستانفورد روبرت بروكتور: “نحن نعيش في عالم من الجهل المتطرف. والغريب أن أي نوع من الحقيقة يمر عبر الضّجيج، على الرغم من أن المعرفة متاحة، ولكن هذا لا يعني أنه تم الوصول إليها، علماً أنَّ معظم الأشياء تبدو تافهة”.
أصبحت دول العالم المتقدّم تعيش نهضة علميّة غير مسبوقة، وصارت الدراسات والتخصصات العلميّة متعددة ومتنوّعة، وباتت الجامعات والمعاهد العلميّة تتبارى في تقديم مختلف البرامج، وصارت مراكز البحوث والدراسات تتسابق في نشر مشاريع متقدّمة، والكثير منها متاح لمن أراد القراءة والاطّلاع، لكنّنا في المقابل، وأمام كلّ هذا الوهج العلميّ، نرى حالةً من الجهل تخيّم فوق ربوع بلداننا وتضرب أطنابها بين ظهرانينا، في زمن أصبح الأثير فيه مفتوحاً وناقلاً للعلوم والمعارف، وتحوَّل العالم إلى قرية صغيرة!
هذا التباين بين المشهدين يدعو إلى التوقف والتأمل قليلاً، ويدفع إلى جولة من البحث والمطالعة، لنكتشف أنّ الدول التي امتلكت العلم والمعرفة بلغت حدّ القدرة على إدارة الفهم الإنساني والتّحكم به عن بعد، وأنّ العقل البشري إنّما هو صندوق للعلم والمعرفة، فإذا ما أدخلت معلومات وحذفت أخرى، واستمرّت هذه العمليّة لفترة معينة، فإنّ هذه العقول ستكون تحت السيطرة.
يعدّ علم الجهل فرعاً من فروع العلوم السرية وهو علم يدرس غرس ثقافة الجهل أو الشك أو الوهم، ويجري من خلاله نشر بيانات خاطئة ومخطَئة أو غير كاملة، وتمتد جذور هذا المصطلح الى الإغريق الكلاسكيين فهو مصطلح مركب منحوت من كلمتين هما: الكلمة اليونانية اغنوسيس agnosis التي تعني عدم المعرفة، وكلمة انتولوجيontology وتعني علم الوجود ويقصد به دراسة الأفعال المتعمدة والمدروسة التي تهدف الى نشر التضليل وخلط الأمور لكسب التأييد أو بيع منتج ما.
والجهل بطبيعته نوعان؛ الأول هو الجهل الذاتي، وهو ما ينتجه الإنسان بنفسه. أمّا النوع الآخر، وهو مدار بحثنا، فهو الجهل الصناعي، أو علم صناعة الجهل، أو ما يطلق عليه “علم الجهل”، إذ يتمّ نشره بأحدث الطرق والوسائل العلميّة، ليكون بضاعة مصنّعة، ونتاجاً لبرامج وبحوث ودراسات علميّة، تُحوّل إلى سلعة وتعرض وتسوّق في متاجر السياسة، ليكون المستهلك قطاعاً واسعاً من المجتمع، لا يفقه خطورة البضاعة وحجم الكارثة التي ستحلّ به.
أدوات نشر الجهل )بعض وسائل الإعلام ):
فهو أداة خطيرة من خلالها يتم صناعة كيانات إعلامية موجّهة، تتبنّى لغة خطاب واحد ومتكرر، لترسيخ الفكرة المراد نشرها في الأذهان فهو بمثابة مشروع جهات ذات نفوذ يعتمد على إستخدام رموز مهمة بالمجتمع للإستفادة من شعبيتهم في ذلك.
( نخبة سياسية مصطنعة ):
حيت يتم تكوين كيانات سياسية تابعة ولها ولاء تام، تقوم بالتأصيل السياسي والتشريعي لما تريده تلك الجهات ذات النفوذ القوي لتكون الذراع السياسي في معركتها ضد العدو.
حيث يتم استخدام مجموعة من رجال الدين الذين تتم صناعتهم واستقطابهم، هدفهم الأساسي تطويع بعض النصوص الدينية وجعلها حجة ودليل لتبرير مواقف معينة بغرض التأثير على العامة. وبهذا فعلم الجهل يستخدم في عالم التجارة والتسويق والدعاية الى غيرها من المجالات الحياتية المختلفة للتأثير والتحكم بتفكير الجمهور من أجل تسويق توجهات سياسية معينة والترويج لها ليتم إقناع الشعوب بها، حيث يعتمد ذوو النفوذ في ذلك على ثلاثة أمور مهمة وهي:
- بث الخوف لدى الآخرين من عدو مفترض.
- ترتيب الأولويات وفقا لمعركة وهمية.
- وضع معايير مضللة لحالة النجاح المطلوبة،
تبدأ عملية التجهيل دوماً بالتشكيك في الحقائق الواضحة، ثم في مرحلة تالية نقل المتشكك إلى حالة الرفض التام للحقيقة، ومن ثم يصبح عقله جهازاً لإستقبال معلومات جديدة، هي المعلومات المغلوطة،
إن أخطر مثال لصناعة الجهل: التعليم ضعيف الفائدة والذي يعتمد على الحفظ ولا يعتمد على الإبتكار وحل المشاكل وتحليل أسباب المشاكل وتحقيق الأهداف في أسرع وقت وبأقل مجهود، هذا النوع من التعليم هو أسوء أنواع صناعة الجهل،
الجهل، إذاً، هو قوّة من حيث إنّك لا تستطيع التعامل معه إلّا من خلال علمٍ، ومن خلال معاينة المعلومات المعرفية، ومن ثم التحكّم بها وتوجيهها سلباً أو إيجاباً، فالجهل، وإن كان نتاجاً طبيعياً لحالة التردّي في المنظومة التعليمية، والانحطاط الذي تشهده الجامعات العربيّة، لكنّه في المقابل يمثّل نتاجاً لعمليّة فعليّة أُسّست وفق منهج علميّ.
هذا المنهج بدأ يتعمّق أكثر ويتّسع ليتمّ استخدامه في الأوساط السياسية والاقتصادية والأكاديميّة، وحتى الإعلاميّة. وأصبح البعض يعرّفه بـ”إدارة الإدراك”، وهو أسلوب يتّبع التضليل والخداع، من خلال نشر بعض الحقائق وإخفاء البعض الآخر، باستخدام تقنيّات وفنون ومهارات عالية الدقة، بغية خلق حالة من التشويش والإرباك لدى المتلقّي.
إنّ علم الجهل أو صناعة الجهل أو إدارة الإدراك كلّها مسمّيات لعلمٍ تقنيّ يقوم بإنتاج معلومات مزيّفة ونشرها على أنّها حقائق، ومحو حقائق ثابتة معتبراً أنّها مزيّفة، وهو يعتبر من أهمّ الأدوات التي يستخدمها الحاكم المستبد والسلطات المهيمنة من أجل تطبيق مبدأ التجهيل وإدارة الأفهام الإنسانية، كمنهج لتدجين العوام من الناس وتحويلهم إلى جيل خانع.
إنه منهجٌ لا تقرأ من خلاله إلا الانحطاط ورداءة الخلق، وأسلوب لبثّ حالة الرّعب، وزعزعة الاستقرار، وإثارة الشكوك، وإدخال الفرد في متاهات ومطبّات تمنع عنه الحلول، ليترك وحيداً في حال من التّخبّط والحيرة، ولتكون قراراته بعد ذلك انفعاليّة غير مدروسة، تعكس حجم الضغوط النفسية وغياب المعلومة الصّحيحة.
وعندما نقف أمام نظم استبداديّة تُسمّي نفسها سياسية، لا بدّ لنا من أن نعيد سؤالي بروكتر: كيف ولماذا “لا نعرف ما لا نعرف”؟
حينها، سنعرف سبب عدم معرفتنا وجهلنا وانحدارنا. سنعرف كيف أننا لم نعرف، وسنعرف بيقين أنّ ما كانوا يصوّرونه لنا على أنّه علمٌ وتعليم، إنّما هو جهل وتجهيل، وأنّ أكثر المصنّعين لبضاعة الجهل هم ممّن باعوا وطنيّتهم، فتمّ اختيارهم وتأهيلهم بعناية وعلميّة فائقتين، وهم على أنواع، فمنهم من يقدّم الاستشارات السياسية والاقتصادية والإعلاميّة، متّكئاً على قاعدة “اكذب ثم اكذب ثم اكذب”، ومحصّناً ومؤهّلاً بـ”علم الجهل”، ليبدأ بنشر التّجهيل وبثّ الإشاعات وزرع حالة اليأس، حتى يبدأ المستهلك بتصديقها، بل ويقاتل في الدفاع عنها.
وحين أقف أمام الحالة المفزعة والانحطاط والتّردي الذي أصاب مؤسَّسات التعليم عموماً، والجامعات على وجه الخصوص، وحالة الإسفاف والانحدار وفقدان البوصلة، والركون إلى الجهل والتخلّف والرضا بهما، فإنني أقف أمام أحد أعمدة الجهل المصنّع.
هو تجهيل أُعدّ بعناية، وشارك في إنتاجه وتمريره أناسٌ قفزوا إلى مجال التّعليم ومواقع اتخاذ القرارات المصيريّة في غفلة من الزّمن، فحوّلوا المناخ التعليمي والجودة في البحث العلميّ وطرق التّدريس إلى مناخ أدهم حالك وأرض جرداء لا تنمو فيها بساتين العلم والفكر والمعرفة.
لذلك، بات لزاماً على الأحرار الوقوف بشجاعة أمام كلّ الطبقات المنتفعة التي يزعجها محو الجهل وعودة العلم والمعرفة. علينا أن نقف حاملين درع ضياء الفكر صفاً واحداً أمام رياح الجهل والظلام، وإلّا ستتحوّل مجتماعتنا إلى “مفاقس” لتوليد المفاهيم المنحرفة والنظريّات السّقيمة، وسيتوقّف الوعي المفاهيميّ عن العمل، فيتوقّف بعده الإنتاج الفكريّ، ويُمحى الإبداع، ويحلّ محلّه النزاع، لنبدأ بعدها مسيرة الضياع.
**********