حزنُ بيروت المعلّق على شجرة الميلاد الحزينة.
مأساةُ وطنٍ وشعبٍ ،كُتِبَ عليه أن يتحمّلَ لعناتٍ أبديّةٍ :
-لعنةُ موقعه الجغرافيَّ وحدوده المشتركةِ بين بلدين منخرطين في نزاعٍ وجودي منذ نصفِ قرنٍ .
-لعنةُ حكّامٍ وسلطةٍ فاسدةٍ قبضتْ على خناقِ الوطنِ والشّعبِ .وعاثتْ به قمعاً وتنكيلاً ونهباً وفساداً.
-لعنةُ الإختلافاتِ المذهبيّةِ والدّينيّةِ والإنقساماتِ الحزبيّةِ والعقائديّة ، والزّعاماتِ العائليّة .
-لعنةُ ثقلِ وجودِ لآجئين فلسطينين وسلاحهم المتفلّتِ ووجودِ لاجئين سوريين غير منظّمٍ وبأعدادٍ تفوق قدرته على الإستعاب ، واستحالةُ عودتهم في المدى المنظور .
غادة المرّ
اللّبنانيون الجدد
لطالما كرهتُ لعبةَ الشّطرنجِ.. فأنا لا أفهمُ لماذا يجبُ أن يموتَ كلُّ الجنودِ ،كي يحيا الملكُ ؟؟
لا أرى ملوكاً يموتون ليحيا الشّعبُ .!! (غاندي)
حزنُ لبنان اليومَ ،مع قدومِ فترة الميلاد ورأس السّنة ، شجرةٌ تحملُ أسماء َشهداءِ المرفأ ،وأخرى
منتصبةً في مكان التّفجيرِ ،زُيّنتْ بملابسَ فوجِ الإطفاءِ الّذين استشهدوا هناك.
كأنّ كلَّ أحزانِ لبنانَ قد علّقتْ على شجرةٍ ،واختصرتْ مأساةَ شعبٍ وهولَ جريمةِ العصر.
لبنانُ الّذي عانى ومازالَ من أسوأ أزمةٍ ماليّةٍ -إقتصاديّة،ومن تفلّتِ الأمن والسّلاحِ، ومن غيابٍ كلّيٍّ لوجودِ الدّولةِ والأمنِ والإستقرارِ . ما دفعَ بالبلادِ للدخولِ بنفقِ نهبِ مدخّراتِ النّاس في المصارفِ والإنحدارِ نحو هاويةٍ ؛ أدّتْ إلى إفلاسِ البلدِ وتدميرِ إقتصاده وخدماتِه المميّزةِ المصرفيّةِ والإستشفائيّةِ والثقافيّةِ … والإنحدارِ بالإقتصادِ نحو أسوأ دركٍ،في ظلِّ سلطةٍ فاشلةٍ وفاسدةٍ .
وإلى جانبِ مأساته هذه ، يعاني لبنانَ من لعنةِ لجوءٍ ،ينؤ تحتها منذُ خمسةِ عقودٍ من الزمن ،تتمثّلُ باللّجوءِ الفلسطينيِّ وباللّجوءِ السّوريِّ .
يتحمّلُ لبنانَ وجودَ لآجئين فلسطينيّن في مخيّماتٍ ،خارجةً عن سلطةِ الدّولةِ .ينتشرُ فيها السّلاحُ والتهريبُ والخارجون عن القانون والمطلوبون من الأمن اللّبنانيِّ.
بالإضافةِ إلى وجودِ اللآجئين السّوريين ، المنتشرين في كافةِ المناطقِ اللّبنانيّةِ ،بطريقةٍ عشوائيّةٍ غيرِ مدروسةٍ ومنظّمةٍ ، ما زادَ من تفاقمِ أزماته الإجتماعيّةِ والإقتصاديّةِ والسّكانيّةِ ، الّتي أدّتْ إلى إفلاسٍ وإنهيارٍ تامٍ لقدرةِ البلدِ على الصّمودِ ،وإنهيارِ مقوّماتِ المواطنِ لعيشٍ كريم.
وذلك نتيجةَ دعمِ البنكِ المركزيِّ للسلعِ ، ومن التهريبِ لتلك السّلع ِالمدعومةِ من نفطٍ وطحينٍ وقمحٍ ودواءٍ … وتهريبٍ للعملةِ الصّعبةِ عبر َالمعابر ِوالمرافئ الغير شرعيّةٍ والّتي لا تخضعُ لسلطةِ ورقابةِ الدّولة .
وأصبحنا ننزلقُ نحو أعنفِ إنحدارٍ كارثيٍّ لأسوءِ أزمةٍ ماليّةٍ ومعيشيّة ، مع إستفحالِ البطالةِ وإفلاسِ الشّركاتِ والمؤسسات الفرديّة. وقبعَ نصفُ الشّعبِ اللّبنانيِّ تحتَ خطِّ الفقرِ والجّوعِ ، وبدأت رؤوسُ الأموالِ بالهروبِ إلى الخارجِ مع استفحالِ هجرةِ الشّبابِ والطاقاتِ المبدعة والمثقفين والكوادرِ الطبيّةِ والهندسيّة والطلابِ وخرّيجي الجامعات .
وما نخشاه ، أن يكون مخططَ كيسنجر المشؤوم ؛ الهادف لتفريغِ الوطنِ من طاقاته الشّابةِ ومن المسيحيين بالأخص ، لتهجيرهم نحو الغربِ، وتوطين اللآجئين الفلسطينين والسّوريين مكانهم ، وإنهاءِ الصّراعِ العربيّ -الإسرائيليِّ ، بذلك ، قد عادَ إلى الواجهة ،خاصة في ظلِّ التطبيعِ العربيِّ -الإسرائيليِّ الّذي يسيرُ على قدمٍ وساقٍ وبوتيرةٍ عاليةٍ ، بالتزامنِ مع ترسيمِ الحدودِ اللّبنانيّةِ-الإسرائيليّة .ولعلَّ هذا الوطنَ المنكوبَ ، ضحيةُ موقعِه الجغرافيِّ المشؤومِ ، بين إسرائيل وسوريا ، وهيمنةُ إيرانَ عليه بواسطةِ حزب الله وسلاحِه وسطوتِه على مفاصلِ الدّولةِ وقراراتِها، وإقحامِه للبنانَ بالصّراعِ الإيرانيِّ-الأميركيّ-السّوريّ-الإسرائيليِّ في الشرقِ العربيِّ.
ولم يعد خافياً على أحدٍ ، الثمن َالباهظَ الّذي دفعه لبنان وعاصمته بيروتَ ،جرّاءَ تفجيرِ المرفأ في بيروت المأساويِّ الّذي جعلَ حزنَ بيروتَ ،مدينةً منكوبةً ،معلّقةً على شجرةِ الميلادِ الصّامتةِ والشّاهدةِ على جريمةِالعصرِ الفاجعة.
وما زادَالطينَ بلّةً، نظامٌ طائفيٌّ ومذهبيٌّ ،وشلّةٌ وعصابةٌ من رؤوساءِ أحزابٍ وميليشياتٍ ،وحكّامٌ فاسدون
مجرمون ،يقبضون على خناقِ الوطنِ والمواطن .
ولعلَّ لعنةَ اللجوءِ الفلسطينيِّ والسّوريِّ قد قصمَتْ ظهرَ البعير .وجرّتِ الويلاتِ على هذا البلدِ المنكوب .
كان سلاحُ اللآجئين الفلسطينيّن المتفلّتِ ،قد زجَّ لبنانَ بحربٍ أهليّةٍ في عام 1975 انتهتْ بدخولِ الإحتلال السّوريّ للبنان الّذي دام 30 عاماً،إنتهى سنة 2005 بخروجهم ومقتل رئيس الوزراءِ اللّبنانيّ رفيق الحريري ،وقيام ثورة الأرز الّتي أخرجتْ الهيمنةَ السّوريّة من لبنان وتلاها ، بعد سلسلةِ إغتيالاتٍ
لرموزِ ثورةِ الأرز ، التمهيد للهيمنةِ الإيرانيّةِ عبر حزبِ الله وسلاحه ،حتى كتابة ِ هذا المقال .
وبإلقاءِ نظرةٍ سريعةٍ على مراحل وتبعات اللجوء السّوري في لبنان ، وإستحالةِ عودتِهم القريبةِ
نستعرض الآتي :
إنّ 75 %من اللآجئين السّوريين إلى لبنانَ ،غادروا قراهم ومدنَهم لأسبابٍ أمنيّةٍ .
هناكَ قلّةٌ منهم مواليةً للنّظامِ،نزحتْ لأسبابٍ إقتصاديّةٍ، ولشعورهم بالأمان ،نظراً لوجود بيئةٍ حاضنةٍ لهم .فيما فرَّ المعارضون للنّظامِ إلى الأردن.
وهناك الكثيرُ من اللآجئين السّوريين في أوروبا،يرفضون العودةَ إلى سوريا ويؤيدون التوطينَ في بلاد اللجوءِ في أوروبا ، لضمانِ أمنهم ومستقبلهم .
يخشى اللآجئون كثيراً من العودةِ المبكّرةِ قبلَ التوصّلِ إلى حلٍّ شاملٍ للنّزاع.
وصرّحَ عددٌ كبيرٌ منهم عن معارضة ِالنّظامِ السّوريِّ لعودتهم إلى بيوتهم وقراهم.
ويبدو على الرّغمِ من رغبتِهم العارمةِ بالعودةِ،لا يرجّح أن يعودوا طوعاً في المستقبلِ القريبِ ،حتّى
لو أُعلنَ عن وقفِ القتال،لأنّهم يطالبون :
-بضمانِ سلامتهِم وأمنِهم .وإنتقالٍ سياسيٍّ مستدامٍ والرجوعِ إلى مسقطِ رأسِهم.
-إرساءُ آليّةٍ قضائيّةٍ تحاسبُ مرتكبي جرائمَ الحربِ وتوفّرُ الفرصَ الإقتصاديّةَوفرصِ العملِ لهم.
-عدم قناعتهم بعودةِ الإستقرارِ والأمن في سوريا ؛وتخوّفهم من الأمن والنّزاعِ والحربِ ٠
-تعرّضُ الكثيرين ممن عادوا إلى قراهم ومنازلهم ،وممن يعارضون النّظامَ ،لعملياتِ ترهيبٍ وتهديدٍ
وإعتقالاتٍ تعسّفيّة ،ما عرّضَ حياتَهم وحياةَ أفرادِ أسرهِم للخطر .
بالإضافة إستغلالُ عددٍ كبيرٍ من المسؤولين في لبنان ، المستفيدين من مأساتهم لتحقيقِ أرباحٍ
ماليّةٍ طائلةٍ من جراءِ الحصولِ على مساعداتٍ وأموالٍ يصارُ لسرقتها وبيعها والمتاجرةِ بقضيةِ أولئك اللآجئين.
ولبنان اليوم غيرُ قادرٍ على تحمّلِ المزيدِ من الأعباءِ لأولئك اللآجئين الّذين يستحقون عيشاً كريماً وعودةً سريعة إلى قراهم ومنازلهم .
لكن الأفق يبدو ضبابياً ومسدوداً أمام عودتِهم المحقّةِ والإنسانيّةِ، وإنَّ معظمَ هذه الشّروطِ ، وثيقةُ الإرتباطِ. وإنَّ إرساءَ الأمنِ والسّلامةِ، متعذّرٌ من دون تغيرٍ سياسيٍّ أو حكومة مختلفةٍ في سوريا .
نحن في لبنانَ، وهم اللاجئون على أرضنا …
نتتظرُ القرارَ لحلِّ أزمة الشّرقِ الأوسطِ وإحقاقِ العدلِ والأمنِ ،وننتظرُ ما ستؤول إليه، عمليةُ ترسيمِ الحدودِ والتطبيعِ وحلٍّ لمشكلةِ الشرق ِالأوسطِ المزمنةِ بشكلٍ عادلٍ ونهائيٍّ ،آملين أن نكون في المفاوضاتِ إلى الطاولةِ وليس على الطاولةِ …
ونكون بذلك قد دفعنا ثمناً باهظاً لن نقوَ على إحتوائِه والإنتهاءِ من دفعِ أثمانٍ قد تؤدي إلى زوالِ لبنانَ وبيروتَ من خارطةِ الشرقِ وإلغاءِ وجهِه الغربيِّ والعربيِّ وحضارتِه وثقافتِه ومحو دورِه الرياديِّ في هذا الشّرقِ الحزين .