بين مطهر المظلومين وجهنّم الظالمين، سِرتُ وبدأت جولتي

بين مطهر المظلومين وجهنّم الظالمين، سِرتُ وبدأت جولتي،

د. جوزف رحمة
اللبنانيون الجدد
التقَيتُ أولاً بأصحاب السيادة والمعالي والسعادة، هؤلاء الذين اغتالوا جميع الأسئلة وجميع السائلين. أصحاب الأقنعة البرّاقة أمام الناس وأمام الدستور، وأصحاب الصفقات المقنّعة في المستور.
رأيتُ كيف أنّ معظمهم يتلقّون أوامرهم وأموالهم وأساليب تحرّكاتهم من الخارج. لفتني كيف يستثمرون مكاتبهم الإعلامية للمراهنة على سذاجة الأكثريّة، فيحكمون دولة مديونة تواجه حرباً سياسية واقتصادية واجتماعية وصحية ببعض رسائل التّشجيع والتّحفيز وعِظات الإرشاد.
سؤالٌ وحيد راودني بعد أن ألقيت عليهم التحية: إن كان لدولتهم وزن فلماذا يخافون ثورة؟ وإن كانت ورقة غِصن فلماذا يدعونها دولة؟
أكملت طريقي والتقَيت الكثير من مدّعي المعرفة والتحليل الجيو-سياسي، والكثير من الذين سألوا مع المتسائلين على مدى إثني عشر شهراً: ماذا فعلت الثورة غير الفوضى والتخريب، ومن يقوم بتمويلها؟
جلست بجانبهم ومعّنت نظري في الساحات ومدى الشوارع، وفي مكاتب النقابات وصفوف الجامعات، وتأمّلت كلّ أمٍّ جائعة تبحث عمّن يشتري الحزن من عيون أطفالها، وكلّ أبٍ مكسور يفتش عن كسرة خبز وعلبة حليب، وكلّ عجوزٍ يلاعِب الدُمَى ليُشبع آخر أحلامه، وكلّ مغترب يتأمّل ويراقب من بعيد وطنه يحتضر، وكلّ شابٍ من ذوي الإحتياجات الإضافية يفتّش عن استمرارية لحياته، فضلاً عن آلاف النقابيين والطلاب الطامحين للبنان جديد ومستقبل أفضل. أعدتُ النظر إلى الجالسين بجانبي وقلتُ لهم دون أن أتكلّم:
إنّ هؤلاء من نعتّموهم بالزعران وقطاعي الطرق وموظفي السفارات، هؤلاء من غضّيتم النظر عنهم وعن إنجازاتهم وتضحياتهم ومطالبهم الوطنيّة المحقّة واكتفَيتم بتركيز مناقشاتكم على البعض القليل من المشاغبين المخرّبين المندسّين الذين يخدشون بالحجارة بعض الأبواب الحديدية الشاهقة.
فبدلاً من أن تتطفّلوا على المواطنين العزّل، فتظلموهم وتقاضوهم، حاولوا أن تتطفلوا على المناطق المظلمة في عقولكم، تلك البقع التي لم تحظَ بنعمة الفهم حتى الآن.
نهضتُ وأكملت جولتي حتى التقَيت بهؤلاء المتحزّبين التابعين. وهُم كُثُر. قبل أن ألقي التحيّة نظرت إليهم وتصوّرتهم أمامي، جمهوراً يستمتع بالعرض على مسرح شكسبيري مخصّص لإلهاء الناس، فيما اللصوص الظرفاء في الخارج يتنعّمون بأموالهم المسروقة وسط حاشية الخَدَم والحَشَم.
همست في أذن أحدهم وقلت: يا من ترتدي ثوب الزعيم، وأنت مقتنع أنّه ثوب الوطنية والعفة والعيش المشترك، نصيحة “لبوس شي تحتو لأنه عم بِلالي”.
وبعد إكمال طريقي، التقيتُ على بُعد ميل زمرة من المشاغبين المسلّحين بالدواليب والحجارة. رأيتهم شبّاناً يهروِلون في مساء بيروت المظلم. يهروِلون حتى إجبار التاريخ أن يعيد نفسه ثلاثين عاماً إلى الوراء حيث الجنون والتفاهة أودت بالبلاد إلى الجحيم.
توقّفتُ وصحتُ بِهم: آمنوا بالله، وتعلّموا من تاريخ وطننا واتعظوا. إنّ العنف في منطق المجتمعات التي تعيش صدمات إقتصادية وإجتماعية، ولّاد عنف. فهو يتغذى من نفسه حتى يصبح كوحشٍ كبير يصعب لجمه أو كبح اندفاعه. وتأكدوا أنّ الحجر يفقد معناه عندما يُرمى حقداً، والدولاب يفقد وهجه عندما يُحرق جهلاً.
مشيتُ ووصلت إلى المحطّة الأخيرة، حيث يجتمع الثائرون للحق والعيش الكريم والمواطنة المحترمة. رأيتهم منقسمين بين خمسة أفرقاء. الأول مؤلّف من القليل ممّن يحملون أعلاماً ويافطات وصرخات. والثاني من بعض رجال الخبرة والفكر الذين يحضّرون الخطط والأهداف والاستراتيجيات. أمّا الثالث يتألف من عددٍ كبير ممّن يستخدم مواقع التواصل الإجتماعي ليتحدّى ويهاجم ويدافع ويربح ويطلق الطلقات. والرابع مؤلف من بعض العناصر الحزبية الذين يؤمنون بشعار “كلن يعني كلن” ولكن يُضيفوا عليه عبارة “زعيمي قدن كلن”. أما الفريق الخامس يتمثّل بغالبية وأكثر، من الصامتين القابعين في بيوتهم يتمنّون النصر وحدوث التغيير.
مع هذا التنوّع الكبير، تأكّدت أنّ الحل لن يكون إلا بإنشاء مجلس عام يقف وقفة قائد يعرف عمقَ التنهد ويقرأُ الأقلام والحناجر الغاضبة. وإلا، ستبدأ مرحلة عضّ الأصابع، والنصر لمن يسترد يديه بأصابع كاملة.
بعد آخر محطة، نظرتُ إلى السماء وقدّمت التحية إلى شهداء الحق والفقر والظلم والظلام، إلى ضحايا الوطن والوطنيّة، إلى من لم تنصفهم الإستحقاقات على أمل أن ينصفهم التاريخ.
شهداء الجيش حيث دُفن الإرهاب، شهداء الثورة حيث دُفن العدل، شهداء عبّارة الموت حيثُ دُفن الأمل، شهداء الفقر حيث دُفنت الإنسانية، وشهداء المرفأ حيث دُفنت بيروت.
قدّمت تحيّة مواطن برتبة ثائر، وأقسمت أنّني كلّما أمرّ في ساحة الشهداء، عليّ بتحية العلم وسماع النشيد.
وأنا في طريق العودة، مرّت أمامي سنوات تَطرح أسئلة وتمنّيتُ أن تأتي سنة لِتُجيب. ولم أتوقّف إلا عند ذاك المثل القائل: “بالبحر، كل السمك بيعرف يعوم. بس عالميزان، كل نوع وإلو سعرو”.

شاهد أيضاً

مقابلة محمد البخيتي مع الصحافية الأمريكية من أصل لبناني رانيا عبد الخالق

مقابلة محمد البخيتي عضو المكتب السياسي لحركة أنصار الله مع الصحافية الأمريكية من أصل لبناني …